علي مدار التاريخ، كان انتشار الفكر القبلي يعني خراب ودمار في المنطقة التي ينطلق فيها، والمؤسف أن الإنسان بطبعه محب للفكر القبلي والذي دائما وأبدا ما يعطيه إحساسا بالتفرد والامتياز عن الآخرين، وهو الأمر الذي بدأ يعود مرة أخرى بشكل قوي ولكن في مجال كرة القدم.
بدون شك ألقت الأحداث التي شهدتها مباراة الأهلي والترجي الأخيرة في دوري أبطال إفريقيا بظلالها علي الأحداث الرياضية بشكل قد يقترب من الأخبار التي عكست نتيجة المباراة ذاتها، وكان الموقف الأمني في اللقاء حديث المنتديات سواء المصرية أو التونسية.
ما أحب أن أركز عليه اليوم هو ردود الفعل التي تلت الأحداث علي مستوي الجمهورين وليس علي مستوي المسئولين والذي كان رائعا وعلي قدر المسؤولية تماما سواء من الجانب المصري أو التونسي ولكني سأركز هنا علي ردود الفعل الجماهيرية، وهي الردود التي تثبت بما لا يدع للشك إننا لازلنا نحاول إحياء النظرة القبلية القديمة داخلنا.
لا شك أن مسؤولية الأحداث المؤسفة التي شهدها اللقاء يتحملها بالقطع بعض من جماهير الترجي، واشدد علي كلمة "بعض" هنا، وهي الجماهير التي قامت بإشعال "الشماريخ" عقب إحراز الأهلي لهدفه الثاني وهو الأمر الذي استدعي استنفار القوات الأمنية التي حذرت كثيرا وعديدا قبل اللقاء من مغبة إدخال واستخدام الألعاب النارية بكافة أنواعها.
بالقطع كان الأمر قابلا للتطور سواء باشتباك جماهير الترجي مع عسكري المطافئ "الغلبان" الذي اشبع ضربا كاد أن يودي بحياته، أو باستخدام قوات الأمن "العنف الزائد" أثناء قبضها علي الأفراد المتورطين في الأحداث، ولكن يبقي الواقع يقول انه لولا إشعال الشماريخ ما لم تكن لتحدث كل هذه الأحداث من الجانبين وهما جماهير الترجي وقوات الأمن ولمرت المباراة مرور الكرام بدون أي مشاكل.
إلي هنا وجماهير الأهلي ليس لها أي دخل في الأمر، خاصة وان العلاقات التي تربط الجمهورين علي مدار السنوات الماضية يشهد بها الجميع وابسط دليل علي ذلك هو المادة الفيلمية التي عرضتها قناة الجزيرة قبل دقائق من بداية المباراة حول التجمع الذي أقامه مجموعة من مشجعي الأهلي لأصدقائهم من جماهير الترجي وهو أمر نال إشادة جميع وسائل الإعلام سواء المصرية أو التونسية.
يبقي الواقع يقول انه لولا إشعال الشماريخ ما لم تكن لتحدث كل هذه الأحداث من الجانبيين وهما جماهير الترجي وقوات الأمن ولمرت المباراة مرور الكرام بدون أي مشاكل.
نأتي الآن إلي موضوعي الأساسي في المقال وهو ردة الفعل من جانب الجمهورين والتي سأتحدث عن كل واحدة منها علي حدة...
ردة فعل الجمهور التونسي
بدون أي تبرير أو سند عقلاني، بدأت مجموعة من الجماهير التونسية عبر الانترنت وخاصة الموقع الاجتماعي "فيس بوك" في تنظيم حملة لتحفيز جماهير الكرة التونسية ضد كل ما هو مصري قادم لمتابعة مباراة الإياب والتي ستقام يوم 17 أكتوبر في رادس.
وجاءت هذه الحملات غير العقلانية وغير المبنية علي أي أساس من وجهة نظري، بناء علي بعض الكلمات الخارجة عن النص التي جاءت في بعض وسائل الإعلام المصرية عقب مشهد ضرب العسكري، وهو أمر قد لا اختلف مع الإخوة في تونس فيه وهو عدم تصعيد الأحداث من جانب الإعلام المصري، إلا إني اخذ عليهم رد السيئة بالسيئة أيضا وتصعيد الأمر كي يكون الجزء الثاني من مسلسل " مصر والجزائر" الفاشل.
وهذه هي القبلية التي أريد التحدث عنها، فالمشكلة لم تكن بين الجماهير علي الإطلاق أو بين دولتين ولكن بين جماهير أخطأت وبين أفراد من الأمن أرادوا فرض الانضباط والالتزام في المدرج وهذا هو أساس عملهم.
نعم قد نختلف معهم في استخدامهم للعنف الزائد، ولكن لا يمكن ان نطلب منهم مثلا الا يلقوا القبض علي من يكسر الانضباط، فهذا أمر بديهي لا جدال فيه والإخوة في تونس علي دراية به جيدا خاصة منذ شهر مايو الماضي عندما قررت السلطات الأمنية في تونس إلغاء مجموعات الجماهير "الاولترا" عقب أحداث الشغب التي طالت البطولة الوطنية هناك الموسم الماضي.
كما سنت السلطات التونسية قانونا حينها حذرت فيه من مغبة إشعال أي "شماريخ" داخل إي استاد مؤكدة انه في حال حدوث ذلك سيتم معاقبة من يفعل ذلك بالحبس لمدة 6 اشهر وتغريمه ماليا مبلغ 500 دينار وهو أمر تم بالفعل تنفيذه مع بعض من مشجعي النادي الإفريقي والترجي خلال الشهور القليلة الماضية.
وزادت النظرة القبلية عندما حاول البعض الربط بين أحداث مباراة الأهلي والترجي وبين أحداث مصر والجزائر في تصفيات كأس العالم لتصبح الخناقة بين دول شمال إفريقيا وبين مصر، غير مبالين بخطورة ما يفعلونه.
المثير للدهشة أن مباراة الترجي في دور المجموعات مع وفاق سطيف الجزائري في رادس شهدت هجوما عنيفا من الجماهير التونسية ضد كل ما هو جزائري وقامت الجماهير برمي الفريق الضيف بالقوارير وكل ما امتلكته أيديها مما يعني أن المواقف تتغير بحسب طرفي اللقاء.
ولكن لا يمكن ان نطلب منهم مثلا أن لا يلقوا القبض علي من يكسر الانضباط، فهذا أمر بديهي لا جدال فيه والإخوة في تونس علي دراية به جيدا جدا
ولا أريد الحديث عن مباريات الترجي والنجم الساحلي أو الترجي والإفريقي والتي دائما وأبدا ما تشهد مشاهد مشابهة وخارجة عن النص من الجانبين مما يعني أن رد فعل الأمن سواء كان تونسي أو مصري في مثل هذه المواقف يكون واحدا من اجل فرض النظام والانضباط وهو أمر ليس من المنطقي أن يعترض عليه احد طالما انه تعدي خطوطه الحمراء.
ردة فعل الجمهور المصري
كانت ردة فعل الجماهير المصرية في معظمها مؤيدة لردة فعل الأمن خاصة في ظل مشهد ضرب العسكري والذي بالقطع ترك أثرا بالغا في " نفوس" أقرانه من الوطن الواحد، ولكن ما جعل دهشتي تتعالي هو أن نفس الموقف تماما حدث في مصر منذ أسابيع قليلة خلال مباراة كرة اليد بين الأهلي والزمالك والتي قامت فيها بعض من جماهير الناديين بأفعال خارجة عن الانضباط تماما ثم اعترض الجمهوريين علي ألقاء القبض علي بعض من أفرادهما ملقيين التهمة علي بعضها البعض.
وبخلاف مباراة كرة اليد، كانت الأمثلة كثيرة وعديدة من قبل لأعمال مشابهة ولكن اختلف ردة الفعل فيها بالطبع نظرا لاختلاف الموقف والمنافس والرغبة أيضا.
والسؤال الآن: ما الذي نريد الوصول إليه جميعا؟ هل نريد الوصول إلي تقسيم أنفسنا إلي قبائل سواء علي المستوي المحلي أو المستوي الدولي؟ فتصبح جماهير الأهلي محصورة فقط في مشاهدة مباريات فريقها في مدينة ونفس الأمر لبقية الجماهير في المحافظات الأخرى ولا يخرج اي فرد في أي مباراة خارجية؟
والامر نفسه سيطبق علي المستوي الداخلي في تونس بالطبع، فجماهير الترجي والإفريقي لن يخرجا من تونس العاصمة، وجماهير النجم الساحلي لا تخرج من سوسة وجماهير الصفاقسي لا تخرج من صفاقس.
وعندما نأتي علي المستوي القاري، لا تخرج الجماهير المصرية إلي خارج بلادها في اي مباراة دولية ونفس الأمر للجماهير التونسية والجماهير الجزائرية ومن ثم نعود إلي عصر الجاهلية والقبائل.
ودعونا نكون صرحاء مع أنفسنا، فهذا الأمر خطير وسنحاسب عليه جميعا يوما ما، المشكلة ليست مشكلة امن في مصر أو امن في تونس أو امن في الجزائر، فأسلوب الأمن في الدول العربية كلها يكاد يكون واحد وان اختلفت الطباع قليلا، ولكن المشكلة مشكلتنا نحن كشعوب تعشق "إغاظة" بعضها البعض حتي ولو لم يكن هناك اي داع لهذه الأفعال.
فالقبلية هي الفيروس الرئيسي الذي جعلنا منذ صغرنا نري مباريات الفرق العربية وبعضها البعض والتي ليس لها أي أهمية من الجانب الفني، نراها في المعلب مهمة للغاية من الجانب الجماهيري والذي تنفس فيه هذه الجماهير عن " عقدها النفسية تجاه بعضها"...
القبلية هي الفيروس الذي يجعل العديد من الجماهير العربية في كل البلدان تقول " والله العظيم لو فريق إسرائيلي لاعب الفريق ده لشجع الفريق الإسرائيلي"...
المشكلة ليست مشكلة امن في مصر أو امن في تونس أو امن في الجزائر، فأسلوب الأمن في الدول العربية كلها يكاد يكون واحدا وان اختلفت الطباع قليلا، ولكن المشكلة مشكلتنا نحن كشعوب تعشق "إغاظة" بعضها البعض
القبلية هي الفيروس الذي يجعل أبناء الوطن الواحد يستبيحون فعل أي شيء حتى لو كان ضرر جسدي لمجرد نيل انتصار زائف علي إخوة لهم في نفس البلد بداع الانتماء لناد أو لمنظومة...
القبلية هي التي تجعل بعض الجماهير تتصادق مع جماهير أخرى صداقة زائفة ومؤقتة في بعض الأحيان ليقفا معا ضد جماهير ثالثة ليسوا في مصلحة معها في هذا الوقت، ثم تختلف الأوراق فيما بعد فنجد نفس هذه الجماهير تغير مبدئها بتغير الموقف وتبدأ في مصادقة الجماهير التي كانت تعاديها في وقت سابق...
القبلية تؤكد أن العديد من أبناء مصر والجزائر الذين ليس لهم اي علاقة بكرة القدم او حتى لا يحبونها او يتابعونا تم ظلمهم في الأحداث الأخيرة بين الجانبيين...
التخلص من القبلية هو السبيل الأول للقضاء علي كل هذه المشاكل، وهذا الحل لن يأت من مقالة أو خلافه ولكنه سيأتي من إرادة الشخص الذي يرغب في ذلك.