فى الحلقات الاربعة السابقة قدمنا تحليلا لايجابيات الاعلام الرياضى فى زمن الرئيس الثانى لمصر جمال عبد الناصر من 1954 الى 1967.. وانهيناه فى الاسبوع الماضى بالاشارة الى الاهرامات الاعلامية الثلاث محمد لطيف وعبد المجيد نعمان ونجيب المستكاوى
تشابه الفاظ
هروب وهروب
الى سويسرا هربت مليارات كثيرة من ثروة مصر المنهوبة خلال ستين عاما قبل ثورة 25 يناير 2011 العظيمة.
السنوات الاخيرة شهدت هروبا من نوع جديد الى سويسرا.. وهو هروب نجوم الاندية المصرية ودائما بطريقة غامضة وغير معلنة.. وبدأها عصام الحضرى من الاهلى الى سيون فى فبراير 2008 واكملها الغانى افوم من سموحه الى يانج بويز قبل ايام.
واليوم نبدأ تحليلنا عن السلبيات المتنوعة التى شهدها ذلك العصر.. وابرزها النفاق الزائد للرئيس عبد الناصر ومجموعته من الضباط الاحرار ولنظامه.. وامتدت السلبيات لتبدأ مرحلة جديدة ومؤسفة من التركيز الشديد بل والاحتكارى على كرة القدمواهمال بقية الالعاب.. واجمعت الصحف والمجلات وبرامج التليفزيون والراديو على تخصيص اكبر المساحات والازمنة للناديين الكبيرين مما ادى الى دعم احتكار الاهلى والزمالك للكرة المصرية.. واخيرا كانت البداية لواحدة من اسوأ مظاهر الاعلام الرياضى وهى انتشار ظواهر الكذب والتهويل والتحقير وفقدان الاعلام لمصداقيته.
ونقدم لكم نماذج لا يمكن ان تراها الا فى دول العالم الثالث وفى ظل النظم القمعية والديكتاتورية.
فى نوفمبر 1959 التقي منتخبا مصر وغانا فى القاهرة فى التصفيات الافريقية المؤهلة لدورة الالعاب الاوليمبية فى روما.. وفاز الفراعنة بصعوبة بالغة 2-1 واجتازوا ذلك الدور تمهيدا لتأهلهم اللاحق الى الاوليمبياد.
كل الصحف والمجلات تركت المباراة لتملأ مساحاتها بالصور الفوتوغرافية للطفلين خالد جمال عبد الناصر وشقيقه عبد الحكيم جمال عبد الناصر.
صحيفة الجمهورية منحت الطفلين خالد وعبد الحكيم ثلاث لقطات متجاورة وهما تواجدا فى المضمار الداخلى للملعب بجوار الاحتياطيين والمسئولين من الجانبين رغم ان اكبرهما لم يكن قد جاوز التاسعة من عمره.. وبالطبع كان ادراكهما لفنون كرة القدم محدودا فى تلك الفترة الا انهما سعدا بالتواجد فى تلك المحافل الجماهيرية وبالحفاوة الضخمة التى لقياها من الجميع.
وفى الصورة الاولى كان خالد هادئا وعبد الحكيم منفعلا وفى الثانية ترك عبد الحكيم مقعده ليلهو كطفل فى المضمار بينما وقف خالد فى مكانه.. وفى الصورة الثالثة نسي عبد الحكيم المباراة وانطلق يلعب فى المضمار تحت عيون المتفرجين المنصرفين للقاء.
جمال عبد الناصر لم يكن حريصا على الذهاب كثيرا الى ملاعب الكرة لانه لم يكن من عشاق كرة القدم او اى رياضة اخرى.. ولكن وجوده فى المباريات القليلة التى ذهب اليها كان وبالا على متابعي المباراة امام الشاشات لان المخرجين تركوا هجمات خطيرة للذهاب الى عبد الناصر وهو يبتسم لجيرانه او يلوح للجماهير.. ولكن ظهوره فى العامين الاول له كرئيس فى 1955 و1956 كان وفيرا للغاية للاقتراب من الشعب والاستفادة من شعبية اللعبة.. واختار بالطبع مباراة القمة بين الاهلى والزمالك للذهاب اليها اكثر من مرة.. واجبر المسئولين فى اتحاد الكرة وفى الناديين على تخصيص ايراد مباراتهما فى الدورى العام فى اكتوبر 1955 لتسليح الجيش.
وتبارى الجميع فى النفاق حتى ان اللاعبين وقفوا امام المقصورة قبل بدء المباراة وقد احضر كل منهم مبلغا من المال للتبرع به فى صندوق يحمله طفل صغير.. ووقف عبد الناصر مصفقا للاعبين فى تمثيلية من الجانبين.. ومجددا تبارت كل الصحف والمجلات لنشر تلك الصورة.
وما من مباراة حضرها عبد الناصر الا وكانت صورة الغلاف فى كل الصحف اليومية له فى المدرجات وهو يشير للجماهير بالتحية او يجلس بجوار ضيوفه.
واختار عبد الناصر عددا من المباريات لدعوة ضيوفه من الزعماء لمشاهدتها للحصول على القدر الهائل من الحفاوة الجماهيرية امام من يريد ان يؤكد لهم حجم ارتباطه بشعبه.
وكان حضور الضباط الاحرار لاى مباراة كفيلا باتجاه الكاميرات اليهم وتركيز الصحفيين عليهم.. وهو الامر الذى دفع اغلب الضباط الى ارتياد المباريات بغزارة كبيرها وصغيرها.. الدولية والمحلية.
الضابط الاكثر اهتماما بكرة القدم كان المشير عبد الحكيم عامر الرجل الذى اصبح السياسي الثانى فى البلاد بعد تولى عبد الناصر سدة الحكم بعد تنحية الرئيس الاول لمصر اللواء محمد نجيب وسجنه فى منزله.. وبلغ اهتمامه الذروة بحضور تدريبات المنتخب وبطولات الجيش الداخلية ومباريات تجريبية للفريق الوطنى ومنتخبات القوات المسلحة.. ونشأت بينه وبين الصحفيين الرياضيين الكبار علاقات خاصة ولم يمر اسبوع الا واخباره تملأ مساحات كبيرة فى كل الصحف.. ومع النفاق الزائد لعامر والمبالغة فى وصف قدراته وفهمه لكرة القدم انتهز الرجل الثانى فى مصر الفرصة وتولى مهمة رئيس مجلس ادارة اتحاد الكرة.. واصبح الامر الناهى فى كل شيئ حتى وصل تدخله احيانا الى تشكيل المنتخب فى بعض المباريات وفى ضم لاعبين واستبعاد اخرين.
وله قصة طريفة جدا فى مباراة تجريبية للمنتخب حيث ادى اللاعبون الشوط الاول بتراخى شديد فغضب جدا وبعث برسالة الى مدير الكرة يوسف الشريعي لمطالبة اللاعبين بمزيد من الجدية.. وقال للشخص المكلف بتوصيل الرسالة (قل للشريعي: عايز حرب).
وما ان وصلت الرسالة الى الشريعي حتى قام بتنفيذ التعليمات حرفيا وارسل مندوبا الى نادى الترسانة والى كلية الشرطة والى منزل اللاعب الدهشورى حرب (لاعب الترسانة وطالب الشرطة) لاستدعائه للانضمام الفورى الى المنتخب ظنا ان المشير عامر هو صاحب القرار.
الضباط الاحرار زكريا محيي الدين وحسين الشافعي وانور السادات كانوا الثلاثة الاكثر اهتماما وحضورا لمباريات كرة القدم ادراكا منهم الى ان تلك التصرفات كفيلة بتقريبهم من الشعب وتعزيز فرصهم فى الترقي.
والغريب ان الامر كان صحيحا.. وكانت كرة القدم وقبلها النفاق الكبير من الاعلام الرياضي لضباط الثورة سببا فى صعودهم جميعا.
عبد الحكيم عامر كان نائبا للرئيس عبد الناصر.. وبعد رحيله عام 1967 اصبح زكريا محيي الدين هو نائب الرئيس ثم جاء خلفه انور السادات وكلهم فى زمن عبد الناصر.. وبعد الرحيل المفاجئ لناصر اصبح السادات رئيسا وحسين الشافعي نائبا له.
نفاق بلا مثيل
لكن الاعلام الرياضي تجاوز كل حدود النفاق لعبد الناصر فى مناسبات متكررة ونقدم لكم مثالا غير مسبوق وربما لن يتكرر فى وصف احدى الصحف لمباراة نيجيريا ومصر فى لاجوس.
وتحت عنوان (يا جمال يا حبيب الملايين) انشودة النصر بلاجوس اكدت الصحيفة ان الجالية اللبنانية الموجودة فى لاجوس اقامت عددا من الولائم للبعثة المصرية واحتفلت بفوزها بعد اللقاء.. وغنى اللبنانيون مع افراد البعثة المصرية للرئيس جمال عبد الناصر (يا جمال يا حبيب الملايين).
واعتبرت الصحف المصرية ان استقبال عبد الناصر للبعثة المصرية قبل السفر لبعض المباريات والبطولات كان سببا فى النتائج الممتازة لها.. وان حرصه على تكريم الفرق المنتصرة هو السر وراء ارتفاع معنويات اللاعبين والمدربين فى كل لقاءاتهم التالية.. واكتملت الصورة القاتمة للنفاق بذهاب احدهم الى اعتبار النتائج السيئة لمنتخب مصر فى بطولة الامم الافريقية الرابعة فى نيجيريا عام 1963 كانت بسبب انشغال الرئيس عبد الناصر وعدم وجود الوقت الكافي للقاء اللاعبين عند مغادرتهم القاهرة الى لاجوس.
ولا يخفي على احد ان ستاد القاهرة الذى بدأ العمل به عام 1956 واعلن افتتاحه فى عام 1960 بحضور الرئيس عبد الناصر كان من المقرر ان يكون اسمه ستاد القاهرة الدولى.. ولكن الضغوط الاعلامية على وزير الشئون الاجتماعية وقتئذ لتغيير اسمه ليصبح ستاد ناصر كان سببا مباشرا فى التغيير.. وبقي اسمه ستاد ناصر حتى عصر الرئيس انور السادات وخلاله استعاد الملعب اسمه الحقيقي بعد زوال اسباب التغيير والنفاق.