الخميس 31 مايو 2018
10:20 م
جثا على ركبيته في خجل، دقق النظر إلى الحبيبات السوداء التي تتناثر بين النجيل الصناعي، كأنه يهرب مما يجري حوله بالتركيز في أشياء أخرى حتى لو كانت لا تهم، اهتزاز الحبيبات بين أقدامه أوحى له بأنني قادم إليه ركضاً فالتفت إلى قائلاً في خيبة أمل شديدة:"سجلوا الجول السابع!".
انتظرت لحظات حتى ترجم عقلي ما سمعته أذناي، وضعت كفاي على جبهتي وعكست عيناي الخذلان ، كنت أظن أننا مهزومون بهدفين أو ثلاثة، الإجهاد البدني مزق دماغي كما فعل في جسدي المُنهك بعد 40 دقيقة كرة قدم.
أومأت مندهشاً ثم أدرت له ظهري وتركته، لم أمد له يدي كي ينهض، جررت قدماي نحو مرمى فريقي في تؤدة ثم تمركزت يساراً قليلاً في جبهتي المفضلة في الملاعب الخماسية وانتظرت استئناف اللعب في صمت.
كان عمرو زميل الملاعب القديم قد اقترب من عامه الأربعون، ورغم أنني أصغره بعشر سنوات إلا أن حالتي البدنية كانت لا يرثى لها، مثله تماماً أو ربما أسوأ، لدينا كرة قدم في عقلنا لكننا نُعاني ضد فريق تحت العشرين أو فوق ذلك بعام أو اثنين مكون من لاعبين لديهم طموح الخروج من الأكاديمية التي يلعبون لها إلى أندية الدوري الممتاز.
أجسادنا المُنهكة واجهت أخرى مُفعمة بالنشاط والقوة والسرعة، أحدهم كان مهارياً للغاية يجيد المرور في موقف لاعب ضد لاعب، ولسوء حظي كان يلعب في جبهتي اليسرى، لكنني حاولت إعمال عقلي فنجحت في غلق كل زوايا المرور بجوار الخط في الملعب الضيق ليجبر في كل مرة على الدخول للعمق والاتجاه نحو لاعب أخر للمرور منه، حسناً، لا مانع لدي في أن يُعبر عن مهاراته لكن ليس على حساب صورتي أمام نفسي أولاً، ليس بتقليب أحلامي القديمة مع كرة القدم وتحويلها لكوابيس،لا!.
ولأن العقل وحده لا يكفي في كرة القدم، انطلق نحوي مُسرعاً في هجمة أخرى مرتدة، فاندفعت نحوه ثم توقفت قبل المواجهة بخطوات قليلة ظناً مني أنه سيرتبك، لكنه مرر الكرة على يسارى بذكاء شديد ثم أنطلق بسرعته من على يميني لينفرد بالمرمى ويسدد قذيفة إلى شباك حارسنا المسكين، نظرت وقتها إلى الأرض فوجدت نفس الحبيبات السمراء التي كان ينظر إليها صديقي مطأطأ الرأس، لمحته فاغر الفم جاحظ العينين بمقربة مني، تحركت ببطء متهدل الكتفين إليه، قائلاً:"مش قادر!".
ابتسم متعجباً مما آلت إليه الأمور بعد كل هذه الأعوام، وكأنه تذكر رحلتنا مع كرة القدم عندما كنا نحلم بالسفر لأوروبا وفعل شيء كالذي يحققه صلاح الآن، لكنه استفاق من شدة الألم النفسي، ورَد:"احنا بنقاوم الزمن، أنا كمان مش قادر، بيلعب عليا واد سريع وحريف جداً".
أحياناً قد لا تهتم عندما يحدثك شخص ما عن مشكلته، تسمع ثم تمضي بعيداً كأنك لم تسمع شيئاً، لكن إذا كانت مأساته هي نفس التي تمر بها، فإن هناك شيئاً ما يصحو بداخلك ويدفعك للتفاعل، هذا ما حدث معي تماماً، ثار عقلي وفار، قلت له، :"اطلع قدام، وانا هتأخر في العمق"، لا يجب أن يلعب مدافع أيمن كما كان يفعل مع نادي السكة الحديد قبل سنوات، وأنا أيضاً ليس من الضرورياً أن ألعب جناحاً أيسر أو بالقرب من الخطوط، لأنني فقدت بعض سرعتي، بصراحة.. لقد فقدتها كلها.
طلبت من شقيقي الأصغر ابن العشرين الذي كان يجاهد معنا ضد زملائه أن يدافع في الجهة اليمنى بدلاً من اللعب كمهاجم، ومن صديقه الذي يكبره قليلأً أن يدافع في الجبهة المُعاكسة، وأن يعتمدا على السرعة لتغطية الجوانب الدفاعية والهجومية ويستقبلوا تمريراتنا من الخلف عند الانطلاقات.
وبالفعل قدما كل شيء على الجبهتين بقوتهما وسرعتهما، وانطلق صديقي العجوز إلى الأمام معتمداً على عقله فقط، كأنه ميلا أو "العميد" وتسلمت أنا التمريرات من الخلف لأعيد تدويرها إلى الأمام عندما ينطلقون على الأجناب أو بتمريراتي البينية الساقطة خلف الدفاع التي كنت أتميز بها قديماً في الملاعب الكبرى التي تتسع لـ22 لاعب، وهكذا.. بدأنا نستعيد الذاكرة وكان هذا مسكناً لا بأس به للآلام.
تغيرت النتيجة بغرابة شديدة جداً لم نصدقها، فبعد تأخرنا (8-2) إلى تقدمنا (9-8)، لم نفعل شيئاً كبيراً في الملعب، فقط اعتمدنا على العقل ورحمنا الجسد المسكين الذي أضناه البُعد عن الرياضة، فقط سجلت هدفاً واحداً وهو أيضاً مثلي، وتكفل عبد الرحمن شقيقي الأصغر بأغلب الأهداف تاركاً لصديقه هدفاً أو اثنين.
وأثناء رحلة العودة بعد المباراة بالأنفاس المتقطعة والصوت المتهدج تحدثنا عن اللاعبين الذين قاوموا الزمن في الملاعب، جال بذهني حسام حسن الذي استمر حتى تخطى الـ40، وعصام الحضري الذي ما زال يكافح ويقاوم رغم أنه دخل في عامه الـ46، وعماد متعب ابن الـ36 الذي يرفض ويؤجل النهاية ويُصر على القتال لفترة أطول.
روجيه ميلا الذي تألق كشاب في العشرين بمونديال 1990 وهو يقترب من حدود الـ40، وتوتي الذي توقف عند سن الـ40 بعد مقاومة رائعة في العاصمة الإيطالية، ومواطنه المخضرم بوفون الذي رحل عن عملاق إيطاليا (يوفنتوس) لكنه يرفض فكرة ترك الملاعب، وما زال يفكر في تحدي جديد يقضي فيه عامه الـ41.
الحياة دائماً تمضي بعنف لدرجة أن بعضهم يثب وجلاً فاسحاً لها الطريق مُفضلاً الانزواء بعيداً والتنازل عن أحلامه مكتفياً بإمعان النظر في خانة العمر ببطاقته الشخصية، لكن البعض الأخر يصدح في وجه الدنيا، يرفض ويقام، يفتح لها ذراعيه ويرفع رأسه عندما تمطر بالنيران والحجارة، حتى في كرة القدم، هناك الكثيرون من يفعلون ذلك، وهذه تحية كبرى لكل مُقاوم ناجح للزمن في الملاعب.
لمناقشة الكاتب عبر تويتر اضغط هنا، وفيس بوك اضغط هنا